سورة الفرقان - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{تبارك} أي ثبت ثبوتاً مع اليمن والخير الذي به سبقت الرحمة الغضب، والتعالي في الصفات والأفعال، فلا ثبوت يدانيه، ولا يكون ذلك كذلك إلا بتمام قدرته، ولا تتم قدرته إلا بشمول علمه، وهذا الفعل مطاوع بارك وهو مختص بالله تعالى لم يستعمل لغيره، ولذلك لم ينصرف لمستقبل ولا اسم فاعل؛ ثم وصف نفسه الشريفة بما يدل على ذلك فقال: {الذي}.
ولما كان تكرار الإنذار- الذي هو مقصود السورة- أنفع، وتفريقه في أوقات متراسلة أصدع للقلوب وأردع، وكان إيضاح المشكلات، في الفرق بين الملتبسات، أعون بما يكون علة، عبر بما يدل على الفرق وقدمه فقال: {نزل الفرقان} أي الكتاب الذي نزل إلى سماء الدنيا فكان كتاباً، ثم نزل مفرقاً بحسب المصالح، فسمي لذلك فرقاناً، ولأنه الفارق بين ملتبس، فلا يدع خفاء إلا بينه، ولاحقاً إلا أثبته، ولا باطلاً إلا نفاه ومحقه، فيه انتظام الحياة الأولى والأخرى، فكان قاطعاً على علم منزله، ومن علمه الباهر إنزاله {على عبده} أي الذي لا أحق منه بإضافته إلى ضميره الشريف، لأنه خالص له، لا شائبة لغيره فيه أصلاً، ولم يحز مخلوق ما حاز من طهارة الشيم، وارتفاع الهمم، ولا شك أن الرسول دال على مرسله في مقدار علمه، وكثرة جنده، واتساع ملكه {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124] ثم علل إنزاله عليه بقوله: {ليكون} أي العبد أو الفرقان.
ولما كان العالم ما سوى الله، وكان ربما ادعى مدع أن المراد البعض، لأنه قد يطلق اللفظ على جزء معناه بدلالة التضمن، وكان الجمع لا بد أن يفيد ما أفاده المفرد بزيادة، جمع ليعرف أن المراد المدلول المطابقي، مع التصريح باستغراق جميع الأنواع الداخلة تحت مفهوم المفرد، واختار جمع العقلاء تغليباً، إعلاماً بأنهم المقصودون بالذات فقال: {للعالمين} أي المكلفين كلهم من الجن والإنس والملائكة.
ولما كان كل من الكتاب والمنزل عليه بالغاً في معناه، عبر بما يصح أن يراد به المنذر والإنذار على وجه المبالغة فقال: {نذيراً} أي وبشيراً، وإنما اقتصر على النذارة للإشارة إلى البشارة بلفظ {تبارك} ولأن المقام لها، لما ختم به تلك من إعراض المتولين عن الأحكام، ونفى الإيمان عنهم بانتفاء الإسلام، وفيه إشارة إلى كثرة المستحقين للنذارة، ولا التفات إلى من قال: إن الرازي والبرهان النسفي نقلا الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرسل الملائكة، فإن عبارة الرازي في بعض نسخ تفسيره: لكنا أجمعنا على أنه لم يرسل إلى الملائكة، وفي أكثر النسخ: بينا- بدل: أجمعنا، على أنه لو اتفقت جميع النسخ عليها لم تضر، لأنها غير صريحة في إرادة الإجماع، ولأن الإجماع لا يثبت بنقل واحد لا سيما في مثل هذا الذي تظافرت الظواهر على خلافه، ولم يرد مانع منه، وأما البرهان النسفي فمن الرازي أخذ، وعبر بعبارته، فصارا واحداً، وقد بينت ذلك عند قوله تعالى في سورة الأنعام: {لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19] بياناً شافياً لا ارتياب معه، بل ولو قيل: إن الآية على ظاهرها، لا خصوص فيها بالعقلاء، وتكليف كل شيء بحسبه، لكان وجهاً، وبذلك صرح الإمام تاج الدين السبكي في أول الترشيح في قوله: وأصلي على نبيه محمد المصطفى المبعوث إلى كل شيء وكذلك المحب الطبري في آخر القرى لقاصدي أم القرى وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ما دعا جامداً ولا متحركاً غير الإنسان إلا أجابه بما هو مقتضى {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها} [الأحزاب: 72] دعا غير مرة عدة من أغصان الأشجار فأتته تسجد له، ثم أمرها بأن ترجع إلى مكانها ففعلت؛ ودعا الضب وغيره من الحيوانات العجم فأطاعته؛ ودعا الأشجار غير مرة فسمعت وسعت إليه؛ وأمر الجبل لما رجف فأذعن؛ وأرسل إلى نخل وأحجار يأمرهن بالاجتماع ليقضي إليهن حاجة ففعلن، ثم أرسل يأمرهن بالرجوع إلى أماكنهن فأجبن؛ وغمز الأرض فنبع منها الماء؛ وأرسل سهمه إلى البئر فجاشت بالرواء- إلى غير ذلك مما هو مضمن في دلائل النبوة، بل ولا دعا طفلاً رضيعاً إلا شهد له لكونه على الفطرة الأولى- إلى غير ذلك مما هو دال على ظاهر الآية المقتضي لزيادة شرفه صلى الله عليه وسلم من غير محذور يلزم عليه ولا نص يخالفة- والله الهادي.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما تضمنت سورة النور بيان كثير من الأحكام كحكم الزنى، ورمي الزوجات به، والقذف، والاستئذان، والحجاب، وإسعاف الفقير، والكتابة، وغير ذلك، والكشف عن مغيبات، من تغاير حالات، تبين بمعرفتها والاطلاع عليها الخبيث من الطيب، كاطلاعه سبحانه نبيه والمؤمنين على ما تقوله أهل الإفك، وبيان سوء حالهم، واضمحلال محالهم، في قصة المنافقين في إظهارهم ضد ما يضمرون؛ ثم كريم وعده للخلفاء الراشدين {وعد الله الذين آمنوا منكم} [المائدة: 9] ثم ما فضح به تعالى منافقي الخندق {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} [النور: 63] إلى آخر الآية، فكان مجموع هذا فرقاناً يعتضد به الإيمان، ولا ينكره مقر بالرحمن، يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة رسالته، ويوضح مضمن قوله: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم} [النور: 63] من عظيم قدره صلى الله عليه وسلم وعليّ جلالته، أتبعه سبحانه بقوله: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] وهو القرآن الفارق بين الحق والباطل، والمطلع على ما أخفاه المنافقون وأبطنوه من المكر والكفر {ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان: 1] فيحذرهم من مرتكبات المنافقين والتشبه بهم؛ ثم تناسج الكلام، والتحم جليل المعهود من ذلك النظام، وتضمنت هذه السورة من النعي على الكفار والتعريف ببهتهم وسوء مرتكبهم ما لم يتضمن كثير من نظائرها كقولهم: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] الآيات، وقولهم {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [الفرقان: 21] وقولهم {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] وقولهم {وما الرحمن} [الفرقان: 60] إلى ما عضد هذه وتخللها، ولهذا ختمت بقاطع الوعيد، وأشد التهديد، وهو قوله سبحانه: {فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً} [الفرقان: 77] انتهى.
ولما تقدم ذكر منزل الفرقان سبحانه، وذكر الفرقان والمنزل عليه على طريق الإجمال، أتبع ذلك تفصيله على الترتيب، فبدأ بوصف المنزل سبحانه بما هو أدل دليل على إرادة التعميم في الرسالة لكل من يريد، فقال: {الذي له} أي وحده {ملك السماوات والأرض} فلا إنكار لأن يرسل رسولاً إلى كل من فيهما {ولم يتخذ ولداً} ليتكبر على رسوله {ولم يكن له شريك في الملك} ليناقضه في الرسالة أو يقاسمه إياها، فيكون بعض الخلق خارجاً عن رسالته، أو مراعياً لأمر غير أمره.
ولما كان وقوف الشيء عند حد- بحيث لا يقدر أن يتعداه إلى حد شيء آخر سواه، فهذا حيوان لا يقدر على جعل نفسه جماداً ولا أعلى من الحيوان، وهذا جماد لا يمكنه جعل نفسه حيواناً ولا أسفل من رتبة الجماد إلى غير ذلك مما يعجز الخلق عن شرحه دالاً على أنه مخلوق مربوب، قال تعالى: {وخلق} أي أحدث إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية {كل شيء} أي مما ادعى فيه الولدية أو الشرك وغيره.
ولما كان قد سوى كل شيء لما يصلح له وهيأه لذلك، قال شارحاً ومحققاً لمعنى خلق: {فقدره} في إيجاده من غير تفاوت {تقديراً} أي لا يمكن ذلك الشيء مجاوزته فيما خلق لأجله وهيئ ويسر له إلى غيره بوجه من الوجوه.
ولما ذكرهم بما ركز في فطرهم من العلم، عجب منهم لكل ذي عقل في جملة حالية فيما خالفوا ما لهم من المشاهدة، فقال مضمراً للفاعل إشارة إل استهجان نسبة هذا الفعل إلى فاعل معين توبيخاً لهم وإرشاداً إلى المبادرة من كل سامع إلى نفيه عنه فقال: {واتخذوا} أي كلف أنفسهم عبدة الأوثان أن أخذوا.
ولما كان علوه لا يحد، فكانت الرتب السافلة لا تحصى، نبه على ذلك بالجار فقال: {من دونه} أي بعد ما قام من الدليل على أنه الإله وحده من الحيثيات التي تقدمت {آلهة} المتحدون مشاهدون لأنهم كما قال تعالى: {لا يخلقون شيئاً} أي لا أعجز منهم، لا يكون منهم إيجاد شيء، فيهم دون من عبدهم.
ولما كان المتعنت ربما ادعى أنهم مع ذلك غير مخلوقين قال: {وهم يخلقون} أي بما يشاهد فيهم من التغير والطواعية لمشيئته سبحانه، ومن ذلك أن عبدتهم افتعلوهم بالنحت والتصوير.
ولما قرر أنه أنعم على كل شيء، وكانت النعم أكثر وجوداً، وكان أدنى نعمة على الشيء خلقه سبحانه له، أخبر أن ذلك الغير لا يقدر على ضر نفسه ولا بالإعدام، فقال معبراً بأداة العقلاء تهكماً بعابديهم حيث أقاموهم في ذلك المقام، أو تغليباً لأنهم عبدوا الملائكة وعزيراً والمسيح عليهم السلام: {ولا يملكون} أي لا يتجدد لهم بوجه من الوجوه أن يملكوا {لأنفسهم ضراً} ولذلك قدمه، ونكره ليعم.
فلما ثبت بذلك أنهم خلقه، ولكن كان ربما قال متعنت: إنهم يملكون ذلك ولكنهم يتركونه عمداً، لأن أحداً لا يريد ضر نفسه، قال: {ولا نفعاً} أي ولو بالبقاء على حالة واحدة، وعبدتهم يقدرون على ما أراد الله من ذلك على وجه الكسب، فهم أعلى منهم وعبادة الأعلى لمن دونه ليست من أفعال العقلاء.
ولما كان الموت والحياة ما ليس لغيرهما من عظيم الشأن، أعاد العامل فقال: {ولا يملكون} وقدم الموت لأن الحياة أكثر، فقال مبتدئاً بما هو من باب الضر على نسق ما قبله: {موتاً} أي لأنفسهم ولا لغيرهم {ولا حياة} أي من العدم {ولا نشوراً} أي إعادة لما طوي من الحياة بالموت، وعطفها بالواو وإن كان بعضها مسبباً عما قبله إشارة إلى أن كل واحدة منها كافية في سلب الإلهية عنهم بما ثبت من العجز.


ولما وصف منزل الفرقان بما لا يحيط به علم أحد غيره من الشؤون، فاتضح بذلك إعجاز المنزل الذي أبان ذلك، وهو هذا القرآن، وأنه وحده الفرقان، عجب من حال المكذبين به فقال موضع {وقالوا}: {وقال الذين كفروا} مظهراً الوصف الذي حملهم على هذا القول، وهو ستر ما ظهر لهم ولغيرهم كالشمس والاجتهاد في إخفائه: {إن} أي ما {هذا} أي القرآن {إلا إفك} أي كذب مصروف عن ظاهره ووجه هو أسوأ الكذب {افتراه} أي تعمد كذبه هذا النذير، فكان قولهم هذا موضع العجب لكونه ظاهر الخلل.
ولما كان الإنسان مطبوعاً على أنه يتكثر بأدنى شيء من المحاسن فيحب أن تظهر عنه ولا ينسب شيء منها إلى غيره، كان أعجب من ذلك وأظهر عواراً قولهم: {وأعانه} أي محمداً {عليه} أي القرآن {قوم} أي ذوو كفاية حبوه بما يتشرف به دونهم؛ وزادوا بعداً بقولهم: {آخرون} أي من غير قومه؛ فقيل: أرادوا اليهود، وقيل: غيرهم ممن في بلدهم من العبيد النصارى وغيرهم، فلذلك تسبب عنه قوله تعالى: {فقد جاءو} أي الكفار في ذلك {ظلماً} بوضع الإفك على ما لا أصدق منه ولا أعدل {وزوراً} أي ميلاً مع جلافة عظيمة عن السنن المستقيم في نسبة أصدق الناس وأطهرهم خليقة، وأقومهم طريقة، إلى هذه الدنايا التي لا يرضاها لنفسه أسقط الناس، فإنها- مع كنها دنيئة في نفسها- مضمونة الفضيحة؛ قال ابن جرير وأصل الزور تحسين الباطل وتأويل الكلام.
ولما تبين تناقضهم أولاً في ادعائهم في القرآن ما هو واضح المنافاة لوصفه، وثانياً بأنه أعين عليه بعد ما أشعرت به صيغة الافتعال من الانفراد، أتبعه تعالى تناقضاً لهم آخر بقوله معجباً: {وقالوا} أي الكفار {أساطير} جمع إسطارة وأسطورة {الأولين} من نحو أحاديث رستم وإسفنديار، فصرحوا أنه ليس له فيه شيء {اكتتبها} أي تطلب كتابتها له {فهي} أي فتسبب عن تكلفه أنها {تملى} أي تلقى من ملق ما إلقاء جيداً متجدداً مستمراً {عليه} من الكتاب الذي اكتتبها فيه في أوقات الفراغ {بكرة} قبل أن ينتشر الناس {وأصيلاً} أي وعشياً حين يأوون إلى مساكنهم، أو دائماً ليتكلف حفظها بعد أن تكلف تحصيلها بالانتساخ أنه أمي، وهذا كما ترى لا يقوله من له مسكة في عقل ولا مروءة، فإن من المعلوم الذي لا يخفى على عاقل أن إنساناً لو لازم شيئاً عشرة أيام بكرة وعشياً لم يبق ممن يعرفه ويطلع على أحواله أحد حتى عرف ذلك منه، فلو أنكره بعد لافتضح فضيحة لا يغسل عنه عارها أبداً، فكيف والبلد صغير، والرجل عظيم شهير، وقد ادعوا أنه مصر على ذلك إلى حين مقالتهم وبعدها لا ينفك، وعيروه بأنه معدم يحتاج إلى المشي في الأسواق، وهو يدعوهم إلى المعارضة ولو بسورة من مثله، وفيهم الكتاب والشعراء والبلغاء والخطباء، وهو أكثر منه مالاً، وأعظم أعواناً، فلا يقدرون.
ولما رموه بهذه الأقوال التي هم فيها في خبط عشواء، وكانت مع كونها ظاهرة العوار، عند من له أدنى استبصار، تروج على بعض العرب بعض الرواج، مع سعة عقولهم، وصحة أفكارهم، لشبه واهية مكنهم فيها التقليد، وشدة الالف لما هم عليه من الزمن المديد، أمره سبحانه بجوابهم مستأنفاً فقال: {قل} أي دالاً على بطلان ما قالوه مهدداً لهم: {أنزله} أي القرآن من خزائن علمه خلافاً لجميع ما تقولتموه {الذي يعلم السر} أي كله، لا يخفى عليه منه خافية فكيف بالجهر! {في السماوات والأرض} فهو يجيبكم عن كل ما تقولتموه فيّ وفي كتابه وإن أسررتموه، ويبين جميع ما يحتاج إليه العباد في الدارين في كلام معجز لفظاً ومعنى على وجه يتحقق كل ذي لب أنه لا يقوله إلا عالم بجميع المعلومات، ولا يحيط بجميع المعلومات سواه، وهذا ظاهر جداً من إخباره بالماضي بما يصدقه العلماء من الماضين، وحكمه على الآتي بما يكون ضربة لازم، وإظهاره الخبء وإحكامه لجميع ما يقوله، وقد جرت عادته سبحانه وتعالى بالانتقام ممن كذب عليه بإظهار كذبه أولاً، ثم بأخذه ثانياً، ثم عذابه العذاب الأكبر ثالثاً، فستنظرون من يفعل به ذلك، وقد بان لعمري صدقه لما وقع من الأمور الثلاثة.
ولما كان من المعلوم أن العالم بكل شيء قادر على شيء كما مضى تقريره في سورة طه، وكانت العادة جارية بأن من علم استخفاف غيره به وكان قادراً عليه عاجله بالأخذ، أجيب من كأنه قال: فما له لا يهلك المكذبين له؟ بقوله مرغباً لهم في التوبة، مشيراً إلى قدرته بالستر والإنعام، ومبيناً لفائدة إنزاله إليهم هذا الذكر من الرجوع عما تمادت عليه أزمانهم من الكفر وأنواع المعاصي: {إنه كان} أزلاً وأبداً {غفوراً} أي بليغ الستر لما يريد من ذنوب عباده، بأن لا يعاتبهم عليها ولا يؤاخذهم بها {رحيماً} بهم في الإنعام عليهم بعد خلقهم، برزقهم وتركيب العقول فيهم، ونصب الأدلة لهم، وإرسال الرسل وإنزال الكتب فيهم، وأمهالهم في تكذيبهم، أي فليس لإمهالهم ووعظهم بما نزله إليهم سبب إلا رحمته وغفرانه وعلمه بأن كتابه صلاح لأحوالهم في الدارين.
ولما أتم سبحانه ما أراد من ذكر المنزل والمنزل، وأخبر عن طعنهم في المنزل الذي هو المقصود بالذات من الرسالة، وأقام تعالى ذلك الدليل على كذبهم، أتبعه الإخبار عن طعنهم في الرسول الآتي به، فقال معجباً عقولهم التي يعدونها أصفى العقول أفكاراً، وأعلاها آثاراً، فيما أبدوه من ذلك مما ظنوا أنه دليل على عدم الرسالة، ولا شيء منه يصلح أن يكون شبهة لذي مسكة من أمره، فضلاً عن أن يكون دليلاً: {وقالوا} أي مستفهمين تهكماً بوصفه، قادحين فيه بفعله، قول من هو على ثقة من أن وصف الرسالة ينافيه: {مال هذا} والإشارة على هذا الوجه تفهم الاستهانة والتصغير؛ ثم أظهروا السخرية بقولهم: {الرسول} أي الذي يزعم أنه انفرد عن بقية البشر في هذا الزمان بهذا الوصف العالي {يأكل الطعام} أي مثل ما نأكل {ويمشي في الأسواق} أي التي هي مطالب الدنيا، كما نمشي.
ولما كانت ترجمة ما مضى: ما له مثلنا وهو يدعي الاختصاص عنا بالرسالة؟ أتبعوه التعنيف على عدم كونه على واحد من وجوه مغايرة على سبيل التنزل جواباً لمن كأنه قال: فماذا يفعل؟ بقولهم: {لولا} أي هلا، وهي تأتي للتوبيخ، وهو مرادهم {أنزل} أي من السماء، من أيّ منزل كان، منتهياً {إليه} أي على الهيئة التي هو عليها في السماء {ملك} أي من الملائكة الله على هيئاتهم المباينة لهيئات الآدميين {فيكون} بالنصب جواباً للتحضيض ذلك الملك وإن كان هو إنساناً {معه نذيراً} فيكون ممتازاً بحال ليس لواحد منا، ليكون أهيب في النذارة، لما له من الهيبة والقوة، وكأنهم عبروا بالماضي إعلاماً بأن مرادهم كونه في الظهور لهم على غير الهيئة التي يخبركم بها من تجدد نزول الملك عليه في كل حين مستسراً بحيث لا ينظره غيره، أو لأن الملك يمكن أن يكون على حالة المصاحبة له للنذارة، وإنما لا يتحول عنها بصعود إلى السماء ولا غيره، بخلاف الكنز فإنه للنفقة، فإن لم يتعهد كل وقت نفد، وهذا سر التعبير ب إلى دون على التي هي للتغشي بالوحي، ولذلك عبروا بالمضارع في قولهم، متنزلين عن علو تلك الدرجة: {أو يلقى} أي من أي ملق كان.
ولما كان الإلقاء دالاًّ على العلو، عدلوا عن أداة الاستعلاء التي تقدم التعبير بها في هود عليه السلام من الإنزال إلى حرف النهاية فقالوا: {إليه} أي إن لم تكن له تلك الحالة {كنز} أي يوجد له هذا الأمر ويتجدد له إلقاؤه غير مكترث ولا معبوء به، برفعه عن مماثلتنا العامة من كل وجه، وأيضاً التعبير في هذا والذي بعده بالمضارع أدل على تكالبهم على الدنيا وأنها أكبر همهم. ثم تنزلوا أيضاً في قولهم: {أو تكون له} أي إن لم تكن له شيء مما مضى {جنة} أي بستان أو حديقة كما لبعض أكابرنا {يأكل منها} فتفرغه عما يتعاطاه في بعض الأحايين من طلب المعاش، ويكون غناه أعز له وأجلب للخواطر إليه، وأحث لعكوف الأتباع عليه، وأنجع فيما يريده- هذا على قراءة الجماعة بالياء التحتية، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالنون يكون المعنى: أنا إذا أمكنا منها، كان ذلك أجلب لنا إلى اتباعه، وما قالوه كله فاسد إذ لم يدّع هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أتباعه أنه هو ولا أحد من الأنبياء قبله يباين البشر، ولا أن وصفاً من أوصاف البشر الذاتية ينافي النبوة والرساله، وأما الاستكثار من الدنيا فهو عائق في الأغلب عن السفر إلى دار الكرامة، وموطن السلامة، وحامل على التجبر، ولا يفرح به إلا أدنياء الهمم، وخفة ذات اليد لا تقدح إلا في ناقص يسأل الناس تصريحاً أو تلويحاً إرادة لتكميل نقصه بالحطام الفاني، وقد شرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما له من صفات الكمال، والأخلاق العوال.
ولما كانوا بهذا واضعين الكلام في غير مواضعه، بعيدين عن وجه الصواب، قال معجباً من أمرهم: {وقال الظالمون} فأظهر الوصف الموجب لهم ذلك: {إن} أي ما {تتبعون} إن اتبعتم {إلا رجلاً مسحوراً} أي يتكلم بما لا يجديه، فحاله لذلك حال من غلب على عقله بالسحر، أو ساحراً صار السحر له طبعاً، فهو يفرق بما جاء به بين المرء وزوجه وولده ونحو ذلك، وعبروا بصيغة المفعول إشارة إلى هذا، وهو أنه لكثرة ما يقع منه من ذلك- صار كأنه ينشأ عنه على غير اختياره.


ولما أتم سبحانه ما ذكر من أقوالهم الناشئة عن ضلالهم، التفت سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له فقال: {انظر} ثم أشار إلى التعجب منهم بأن ما قالوه يستحق الاستفهام بقوله: {كيف ضربوا} وقدم ما به العناية فقال: {لك الأمثال} فجعلوك تارة مثلهم في الاحتياج إلى الغذاء، وتارة نظيرهم في التوسل إلى التوصل إلىلأرباح والفوائد، بلطيف الحيلة وغريز العقل، وتارة مغلوب العقل مختلط المزاج تأتي بما لا يرضى به عاقل، وتارة ساحراً تأتي بما يعجز عنه قواهم، وتحير فيه أفكارهم {فضلوا} أي عن جميع طرق العدل، وسائر أنحاء البيان بسبب ذلك فلم يجدوا قولاً يستقرون عليه وأبعدوا جداً {فلا يستطيعون} في الحال ولا في المآل، بسبب هذا الضلال {سبيلاً} أي سلوك سبيل من السبل الموصلة غلى ما يستحق أن يقصد، بل هم في مجاهل موحشة، وفيافي مهلكة.
ولما ثبت أنه لا وجود لهم لأنهم لا علم لهم ولا قدرة، وأنهم لا يمن لهم ولا بركة، لا على أنفسهم ولا غيرهم، أثيت لنفسه سبحانه ما يستحق من الكمال الذي يفيض به على من يشاء من عباده ما يشاء فقال: {تبارك} أي ثبت ثباتاً مقترناً باليمن والبركة، لا ثبات إلا هو {الذي إن شاء} فإنه لا مكره له {جعل لك خيراً من ذلك} أي الذي قالوه على سبيل التهكم؛ ثم أبدل منه قوله: {جنات} فضلاً عن جنة واحدة {تجري من تحتها الأنهار} أي تكون أرضها عيوناً نابعة، أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجه في استثمارها إلى سقي.
ولما كان القصر- وهو بيت المشيد- ليس مما يستمر فيه الجعل كالجنة التي هذه صفتها، عبر فيه بالمضارع إيذاناً بالتجديد كلما حصل خلل يقدح في مسمى القصر فقال: {ويجعل لك قصوراً} أي بيوتاً مشيدة تسكنها بما يليق بها من الحشم والخدم، قال البغوي: والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً. وهذه العبارة الصالحة لأن يجعل له سبحانه ذلك في الدنيا مما فتت في أعضادهم، وخافوا غائلتها فسهلت من قيادهم، لعلمهم بأن مراسله قادر على ما يريد، لكنه سبحانه أغناه عن ذلك بتأييده بالأعوان، من الملائكة والإنس والجان، حتى اضمحل أمرهم، وعيل صبرهم، ولم يشأ سبحانه ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية، وأخره إلى الآخرة الباقية، وقد عرض سبحانه عليه ما شاء من ذلك في الدنيا فأباه، روى البغوي من طريق ابن المبارك، والترمذي- وقال: حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرض عليّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب! ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» وروي عن طريق أبي الشيخ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو شئت لسارت معي جبال الذهب جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً، فنظرت إلى جبريل عليه الصلاة والسلام فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبياً عبداً قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً ويقول: آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» وسيأتي في سورة سبأ عند {وأرسلنا له عين القطر} [سبأ: 12] ما يتم هذا، ولا يبعد عندي أن يكون أشير بالآية الشريفة- وإن كانت في أسلوب الشرط إلى ما فتح عليه صلى الله عليه وسلم من الحدائق التي لم يكن مثلها في بلاد العرب لما فتح الله عليه خيبر ووادي القرى، وتصرف في ذلك بنفسه الشريفة وأكل منه وإلى ما فتح على أصحابه من بعده من بلاد فارس والروم ذات القصور والجنان التي لا مثل لها ولذلك عبر في الجنات بالماضي، وفي القصور بالمضارع، وأتيحوا كنوز كسرى بن هرمز، فإن اللائق بمقام الملوك أن تكون إشاراتهم أوسع من عباراتهم، فإذا ذكروا شيئاً ممكناً على سبيل الفرض كان من إرادتهم إيجاده، ويحبون أن يكتفي منهم بالإيماء، وأن يعتمد على تلويحهم أعظم مما يعتمد على تصريح غيرهم، وأن يعد المفروض منهم بمنزلة المجزوم به من غيرهم، والممكن في كلامهم كالواجب، فما ظنك بملك الملوك القادر على كل شيء! وهو قد صرف سبحانه الخطاب إلى أعلى الناس فهماً، وأغزرهم علماً، وقد أراه سبحانه ما يكون من ذلك من بعده في غزوة الخندق. روى البيهقي في دلال النبوة عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق ليحفره جعل على كل عشرة أربعين ذراعاً، وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه رجلاً قوياً، فاختلف فيه المهاجرون والأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا أهل البيت فخرجت لهم صخرة بيضاء مدورة، قال عمرو: فكسرت حديدنا. وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة، فأخبر فأخذ صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ثلاث ضربات صدع فيها في كل ضربة صدعاً، وكسرها في الثالثة، وبرقت مع كل ضربة برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل برقة تكبيرة، ثم أخذ بيد سلمان فرقي فسأله سلمان للقوم: هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم! يا رسول الله! بأبينا أنت وأمنا! قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبر، لانرى شيئاً غير ذلك، فقال: أضاءت لي من البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، ومن الثانية القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، ومن الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني، جبريل عليه الصلاة والسلام أن أمتي ظاهرة عليها» فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله! موعود صادق بأن وعدنا النصر بعد الحصر، فطلعت الأحزاب فقال المسلمون {هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} [الأحزاب: 22] وقال المنافقون في ذلك ما أشار إليه الله تعالى في القرآن؛ ثم إن الله تعالى كذب المنافقين وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، فافتتح أصحابه رضي الله عنهم جميع ما ذكر، وغلبوا على سائر مملكة الفرس واليمن وأكثر الروم، وانتثلوا من كنوز كسرى وقيصر ما يفوت الحصر، وقد كان صلى الله عليه وسلم تصرف في ذلك من ذلك الوقت تصرف الملوك، لأن وعد الله لا خلف فيه، بل غائبه أعظم من حاضره غيره، وموعودة أوثق من ناجز سواه، فأعطى صلى الله عليه وسلم تميم بن أوس الداري بلد الخليل عليه الصلاة والسلام من أرض الشام من مملكة الروم، وأعطى خريم بن أوس- الذي يقال له: شويل- كرامة بنت عبد المسيح ابن بقيلة من سبي الحيرة من بلاد العراق من مملكة فارس، وكل منهم قبض ما أعطاه عند الفتح كما يعرفه من طالع كتب الفتوح علىأيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، فعندي أن هذا مما أشارت إليه الاية الشريفة، نزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عنه وفتحه على أصحابه، تشريفاً لهم بإزالة أهل الشرك عنه، وإنعاماً عليهم به تصديقاً لوعده، وإكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم بنصر أوليائه وتكثير أمته، وحضر ذلك كثير ممن كان من القائلين {ما لهذا الرسول} [الفرقان: 7] إلى آخره، وقد كان قادراً على أن يقويه بجميع ذلك قبل موته، ولكنه لم يفعل لأن ذلك أوضح في الأمر، لأن نصره على خلاف ما ينصر به أهل الدنيا من غير جنود كثيرة ظاهرة، ولا أموال وافرة، ولا ملوك معينة قاهرة، بل كانت الملوك عليه، ثم صاروا كلهم أهون شيء عليه، بيد أصحابه من بعده وأحبابه.
ولما ثبت بما أثبت لنفسه الشريفة من الكمال أنه لا مانع من إيجاد ما ساقوه مساق التوبيخ إلا عدم المشيئة، لا عجز من الجاعل ولا هوان بالمجعول له، تسلية له صلى الله عليه وسلم في أسلوب مشير بأنه يعطيه ذلك، سلاه أيضاً بأن ما نسبوه إليه لا يعتقدون حقيقته، فأضرب عن كلامهم قائلاً: {بل} أي لا تظن أنهم كذبوا بما جئت به لأنهم يعتقدون فيك كذباً وافتراء للقرآن، أو نقصاناً لأكلك الطعام ومشيك في الأسواق، أو في شيء من أحوالك، أو لا تظن أنهم يكذبون بقدرته تعالى على ما ذكر أنه إن شاء جعله لك بل، أو المعنى: دع التفكر فيما قالوه من هذا فإنهم لم يقتصروا في التكذيب عليه بل {كذبوا بالساعة} أي بقدرتنا عليها، واستقر ذلك في أنفسهم دهوراً طويلة، وأخذوه خلفاً عن سلف، وأشرب قلوبهم حب هذا الحطام الفاني، وتقيدت أوهامهم بهذه الظواهر كالبهائم، فعسر انفكاكهم عن ذلك بما جاءهم من البيان الذي لا يشكون فيه، فاجترؤوا لذلك على العناد لعدم الخوف من أهوال يوم القيامة كما قال تعالى عن أهل الكتاب: {وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} [آل عمران: 24] {وأعتدنا} أي والحال أنا أعتدنا أي هيأنا بما لنا من العظمة {لمن كذب} من هؤلاء وغيرهم {بالساعة سعيراً} أي ناراً شديدة الاتقاد بما أعظموا الحريق في قلوب من كذبوهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم {إذا رأتهم} أي إذا كانت بحيث يمكن أن يروها وتراهم لو كانت مبصرة {من مكان بعيد} وهو أقصى ما يمكن رؤيتها منه وهم يساقون إليها {سمعوا لها} أي خاصة {تغيظاً} أي صوتاً في غليانها وفورانها كصوت المتغيظ في تحرقه ونكارته إذا غلا صدره من الغضب {وزفيراً} أي صوتاً يدل على تناهي الغضب، وأصله صوت يسمع من الجوف.
ولما وصف ملاقاتها لهم، وصف إلقاءهم فيها قال: {وإذا ألقوا} أي طرحوا طرح إهانة فجعلوا بأيسر أمر ملاقين {منها} أي النار {مكاناً} ووصفه بقوله: {ضيقاً} زيادة في فظاعتها {مقرنين} بأيسر أمر، أيديهم إلى أعناقهم في السلاسل، أو حبال المسد، أو مع من أغواهم من الشياطين، والتقرين: جمع شيء إلى شيء في قرن وهو الحبل {دعوا هنالك} أي في ذلك الموضع البغيض البعيد عن الرفق {ثبوراً} أي هلاكاً عظيماً فيقولون: يا ثبوراه! لأنه لا منادم لهم غيره، وليس بحضرة أحد منهم سواه؛ قال ابن جرير: وأصل الثبر في كلام العرب الانصراف عن الشيء. فالمعنى حينئذ: دعوا انصرافهم عن الجنة إلى النار الذي تسببوا فيه بانصرافهم عن الإيمان إلى الكفر، فلم يكن لهم سمير إلا استحضارهم لذلك تأسفاً وتندماً، فأجيبوا على طريق الاستئناف بقوله تعالى: {لا تدعوا اليوم} أيها الكفار {ثبوراً واحداً} لأنكم لا تموتون إذا حلت بكم أسباب الهلاك {وادعوا ثبوراً كثيراً} لا يحصره الإحصاء ولا آخر له، فإنكم وقعتم فيما يوجب ذلك لأن أنواع الهلاك لا تبارحكم أصلاً ولكنه لا موت.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6